عمَّن أتحدث؟
عُرِفَ
عن المصري على مر التاريخ أنه مُحب للحياة، يحاول التغلب على همومه وأحزانه بالضحك؛
ولهذا يبحث عن النكات كوسيلة لتحسين الحالة المزاجية له.
وعلى
مدار أعوام عديدة ترتكز أغلب الأعمال الكوميدية والنكات على الرجل الصعيدي وتصوره على
أنه إنسان ساذج من السهل خداعه؛ ولهذا نجده اشترى العتبة الخضراء، والتورماي، غليظ
القلب ليس للرحمة فيه مكان، أسهل شىء عنده القتل، صورة ذهنية مشوهة لا تمت بصلة للحقيقة
رُسمت من الخيال.
.. عزيزي القارئ!
هل فكرت
ذات مرة لماذا الصعايدة أكثر من ينشر نكات عنهم؟
ولماذا
أصبحت النكات تستهدف ثوابتنا ومبادئنا وعلمائنا وقاماتنا؟
والجواب
يكمن في أن: النكتة هي وسيلة من وسائل تغيير الأفكار والسلوك لدى الأفراد، وهي
تستهدف تشكيل وترسيخ صورة معينة في مجتمع ما، وتغيير الصورة الحقيقية، فالنكات ذات
تأثير قوي لمحو الصورة الصحيحة والحقيقية وتثبيت صورة جديدة، وبمرور الوقت تصبح
هذه الصورة هي الأصل فكما قيل:" ما تَكَرَّرَ تَقَرَّر".
ولذا
فإن الاحتلال البريطاني عندما استشعر بخطر الصعايدة الثّوار
الأحرار ذوي النخوة والقوة والشجاعة أشاع عنهم الغباء وأطلق عليهم النكات الساخرة وتداولها
حتى اهتزت صورة الصعايدة أمام الناس وصدقوها، وهى على العكس تمامًا من الحقيقة، فالصعيدي
شخص مختلف لا يشبه أحد لا في ملابسه ولا في لهجته ولا في طباعه ولا في صفاته
وأخلاقه، فهو إنسان طيب القلب بعيد عن الخُبث واللؤم، رحيم بالغير، غيور على عِرضه
يقال عنه "دَمه حامي" ، متمسك بأرضه إلى أبعد حد لأنها جزء منه، بيته
بيت ضيافة وكرم لا يعرف البُخل يُقدم ما عنده وإن كان قليل، يمد يد العون
والمساعدة لكل من حوله، على أتم استعداد أن يضحي بنفسه ليحمي من استجار به، له
عادات وتقاليد هي بمثابة دستور يحافظ عليها ويعلمها لأبنائه جيل بعد جيل، لا يقبل
إلا ما هو صحيح ويرفض كل ما هو خطأ، هو شخص نقي يتصرف بطبيعته، شَهم، يُعتمد عليه،
لا يعرف الخيانة فهو أوفى صديق، وأفضل زوج، وأحنّ أب، إذا رأيته وجدته بشوشًا دائم
الابتسامة وقد يكون بداخله هموم وأحزان تملئ الكون، لا يمد يده ويزل كرامته وأن لم
يجد ما يسد به رمقه، تحسبه متعلم وهو كذلك، وإن لم يكن كذلك فهو متعلم بفطرته فقد
تربى على قيم و مبادئ وأخلاق ندرة الآن، عجزت أعظم الجامعات عن غرسها في طلابها.
إذا
أردت أن تعلم عمَّن أتحدث؟ فأنا أتحدث عن رفاعة الطهطاوي وهو من قادة
النهضة العلمية في مصر في عهد محمد على باشا، وجمال عبد الناصر وهو أحد قادة ثورة
٢٣ يوليو ١٩٥٢، وهو ثاني رؤساء مصر تولى السلطة سنة ١٩٥٦، وعباس العقاد وهو أديب
ومفكر وصحفي لُقِب ب " عملاق الفكر العربي"، وطه حسين وهو أديب وناقد
لقب ب " عميد الأدب العربي"، ومصطفى المراغي وهو عَالِم أزهري مُبجل و
واحد من أفضل مؤرخي العلوم الإسلامية، تولى منصب شيخ الأزهر عام ١٩٢٨م، ومحمد سيد
طنطاوي وهو عَالِم أزهري تولى منصب شيخ الأزهر عام ١٩٩٦م، وعبد الباسط عبد الصمد
وهو قارئ قرآن يُعد أحد الأعلام البارزين في هذا المجال لُقب بألقاب عدة
منها:" صوت مكة" و" الحنجرة الذهبية"، ومحمد صديق المنشاوي
وهو أحد روّاد التلاوة المتميزين بتلاوته المرتلة
والمجوّدة، سجّل المصحف المرتل برواية حفص عن عاصم وكان قارئًا في الإذاعة المصرية،
وأحمد الطيب وهو العَالِم التقي إمام المسلمين شيخ الأزهر في هذا العصر، اطال الله
في عمره ومتعه بالصحة والعافية، وغير هؤلاء الكثير والكثير لا يسع المجال لذكرهم.
اليوم أصبح لزامًا علينا أن نتعامل مع هذه النكات
والإشاعات بكل وعي، وأن نُظهر خطرها على المدى البعيد، وأن لا نتداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبهذا لا تنتشر، فإذا
ما فعلنا ذلك ابقينا على الصورة الصادقة المشرقة لمجتمعاتنا ولن تستطيع الأكاذيب والافتراءات
تشويهها.
أيضًا صُناع الدراما والسينما مطالبون بإعادة
النظر فيما يُكتب وما يُقدم، فالتاريخ لا ينسى من عالج خللًا في المجتمع من خلال
تقديم عمل قيّم، ومن أحدث في المجتمع خللًا من خلال تقديم صورة مشوهة ليس لها وجود
في الواقع.
أ/
وفاء عزالدين أحمد
الواعظة بمجمع البحوث الإسلامية
منطقة وعظ قنا

تعليقات
إرسال تعليق