الطيب.. عن بُعْد وعن قرب

  


بقلم: أ.د/ عباس شومان

رئيس المنظمة العالمية لخريجى الأزهر 

الأمين العام لهيئة كبار العلماء 

معرفتى بالإمام الطيب مرت بمرحلتين: الأولى حين كنت أستاذاً بالجامعة، وكان فضيلته رئيساً لها، وبعد توليه مشيخة الأزهر انتخبت عميداً لكليتى، وفى خلال هذه المدة كنت أعرف الإمام بوصفى واحداً من العاملين بالأزهر، لم ألتقِ به إلا فى المناسبات التى ينظمها الأزهر وجامعته؛ حيث أراه فى المناسبة متحدثاً على المنصة، ثم ينصرف دون لقاء أو حديث مباشر كغيرى من الزملاء الحضور.

وكانت معرفتى به فى هذه المرحلة تعتمد على معلومات يرددها الناس والإعلام، حتى فوجئت بدعوتى يوماً لحضور اجتماع لهيئة كبار العلماء؛ حيث كانت تناقش قانون الصكوك الإسلامية الذى ناقشه مجلس الشورى فى عهد الإخوان، وأرسلوه لهيئة كبار العلماء لأخذ الرأى الشرعى، وكنت قد نظمت فى جامعة الأزهر مؤتمراً عن الصكوك، وكانت لى اعتراضات شهيرة عليه، فلما سمع فضيلته بالمؤتمر وبمعارضتى لمشروع القانون، طلب من معاونيه استدعائى لحضور الجلسة، وكذا الأستاذ الدكتور عبدالله النجار، بصفتنا خبيرين من خارج الهيئة، وكانت المرة الأولى التى تتم فيها دعوة خبراء من خارج الهيئة لحضور جلسة من جلساتها.

وقد أكبرت لفضيلته دعوتى للحضور مع الكبار لسماع رأى معارض لمشروع يجتهد مقدموه للحصول على الموافقة عليه، وأكبرته أكثر حين سمح لى بالحديث فى أثناء الجلسة بشكل مفصل عن ملاحظاتى التى استُقبلت استقبالاً جيداً من فضيلته والسادة العلماء أعضاء الهيئة، ووصل الإكبار منتهاه حين قررت الهيئة تشكيل لجنة مصغرة للدراسة التفصيلية لبنود المشروع من كبار العلماء، فجعلنى فضيلته واحداً من أعضاء اللجنة الخمسة، وعقدنا عدة جلسات، ثم قدمت اللجنة تقريراً عُرض على الهيئة، وبعدها أرسلت الهيئة رأيها بالموافقة المشروطة بتلافى ملاحظات الهيئة على المشروع التى كان من أهمها تعديل الصياغة لتضمن عدم تملك الأجانب ثروات أجيال المصريين.

وإلى هنا لم تكن معرفتى بالإمام مباشرة، حتى تلقيت دعوة للتوجه للمشيخة لأخذ رأيى فى بعض المسائل الشرعية، فوجدت نفسى أمام فضيلته فى مكتبه، وكان هذا هو اللقاء المباشر الأول، فسألنى بعض أسئلة أذكر منها أنه سألنى: كيف حال الجامعة؟ فقلت له دون تفكير: حالها لا يناسب ما ينبغى أن تكون عليه جامعة الأزهر. قال: كيف؟ قلت له: جامعة كبرى كجامعة الأزهر لا يكفى لقيادتها رئيس الجامعة ونائب واحد، فى حين أن مقاعد ثلاثة نواب لرئيس الجامعة خالية منذ تسعة شهور! ولم أكن أعلم هل هذه الإجابة ستعجبه أو لا؛ حيث إنه هو المسئول الأول عن مؤسسة الأزهر بما فيها الجامعة، وكانت هذه مما نأخذه على فضيلته نحن أعضاء هيئة التدريس فى الجامعة؛حيث نحمله عدم تعيين نواب لرئيس الجامعة كل هذه المدة، فرأيت من الأمانة أن أحدثه ببعض ما نتحدث به عن فضيلته فى الجامعة. فقال: الله المستعان! ولم يزد، ولم أفهم قصده من هذه العبارة؛ حيث إنها تحتمل الكثير!

وبعد فترة وجيزة من اللقاء، فوجئت باتصال من المشيخة يخبرنى بأن هيئة كبار العلماء فى اجتماع لها قررت بالإجماع اختيارى أول أمين عام للهيئة، وهنا اقتربت من فضيلته؛ حيث كنت أحضر جلسات هيئة كبار العلماء مع ممارسة عملى بالجامعة، ولم أكن أعلم أن فضيلته اختارنى وكيلاً له حتى أصدر المستشار عدلى منصور، رئيس الجمهورية السابق، قرار تعيينى وكيلاً للأزهر، وبعد أيام قلائل أدركت معنى قول فضيلته: «الله المستعان»، حين التقيت به لأول مرة بعد إجابتى عن حال الجامعة، وأنها كانت تعبر عن أسى داخل نفسه، لا سيما أنه قد أدرك من إجابتى أننا أعضاء هيئة التدريس بالجامعة نحمله المسئولية عن عدم تعيين نواب لرئيس الجامعة كل هذه المدة؛ فقد علمت أنه كان يخوض وقتها معركة مع الإخوان لا نعلم عنها شيئاً؛ حيث كانوا يصرون على تعيين نواب لرئيس الجامعة من اختيارهم، فى حين كان يصر فضيلته على اختيارهم ممن يطمئن لعدم وجود أى انتماء سياسى أو حزبى لهم، أو لكيانات تختلف توجهاتها الفكرية عن توجهات الأزهر، ولذا فضَّل أن تبقى الأماكن شاغرة عن شغلها بنواب من اختيارهم، حتى تحقق له ما أراد، ولم ينجح الإخوان فى تعيين شخص واحد من اختيارهم. وهذه شهادة لا يعلمها كثير من الناس، ولست أدرى هل من المناسب كشف النقاب عنها وأنا أذكر شهادتى عن قرب عن رجل ظُلم من كثير من الناس، وأنا من بينهم، حين ظننا به التقصير مع أنه برىء منه!

وهذا مجرد مثال لأمور أدركت من خلال عملى وكيلاً للأزهر أن معرفتنا بها عن بعد لم تكن صحيحة؛ لقد رأيت فيه ما لم أره فى غيره فى عالمنا، ولا أظن أن مثله موجود فى دنيا الناس فى زماننا؛ رأيته وهو يحاور سياسيين من الدول الكبرى، مصححاً فهمهم الخاطئ عن الأحداث التى وقعت فى مصر فيما يعرف بـ(الربيع العربى) وكأنه سياسى من الطراز الأول، مع تأكيده مراراً فى حديثه أنه ليس سياسياً، وإنما هو مسئول دينى يعيش بين الناس. رأيته وهو يحاور بعض أصحاب توجهات فكرية دينية تخالف ما ينتهجه الأزهر، مفنداً لآراء تصدر عنهم تعكر صفو العلاقة بين أبناء الوطن الواحد، ومطالباً بالتراجع عنها.

لقد رأيت رجلاً دخول مكتبه أيسر كثيراً من دخول مكتب وكيله أو أى مسئول آخر، وحين قلت له إنه يشغل نفسه بأمور بسيطة يمكننا توليها نيابة عنه، قال: لو كان فيكم خير ما وصلتنى! رأيته مرة ينهر المسئولين فى مكتبه وقد ألحوا عليه بأن ضيفاً كبيراً ينتظر فى صالون مكتبه، فى حين كان فضيلته منهمكاً مع باحثة تسأله عن بعض مشكلات بحثها، قائلاً: هذه أهم عندى من أى مقابلة، ولا تستعجلونى حتى تنتهى. رأيته مرة وقد أشير عليه بالسفر إلى دولة أوروبية لإجراء بعض فحوصات طبية، يقول: بل سأذهب إلى مستشفى الدكتور مجدى يعقوب فى أسوان، من باب دعم المستشفى، وثقة فى كفاءة الأطباء به.

لقد رأيت رجلاً مفعماً بالوطنية من شعر رأسه إلى أخمص قدميه، متمسكاً بدينه وثوابته إلى أبعد حد، زاهداً فى المناصب، مخلصاً فى القيام بمهامها. رأيته يغادر آخر شخص من المشيخة، ويعمل يوم السبت كغيره من الأيام، فى حين أن كثيراً من المصالح لا تعمل فيه. رأيته يتواصل مع معاونيه لساعات متأخرة من الليل، ويتواصل مع قيادات الأزهر وهو فى الأقصر -التى يفترض أن تكون محل راحته- أكثر مما يكون فى القاهرة؛ حيث يتوافد أصحاب المطالب على الساحة، فتجده يمسك بهاتفه طالباً أحد المسئولين فى الأزهر -وأحياناً فى غير الأزهر- مناقشاً معه المشكلة، وموجهاً بضرورة حلها والإفادة إن لم يكن فى أثناء المحادثة، فخلال وقت يحدده هو، وقد لا يتجاوز ساعات!

هذا قليل من كثير عرفته عن إمام المسلمين الأكبر، فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، حفظه الله ومد فى عمره ليواصل العطاء عقوداً أخرى لعالمنا الإسلامى ومصرنا الحبيبة وأزهرنا الشريف.

****

لقد رأيت فيه ما لم أره فى غيره فى عالمنا، ولا أظن أن مثله موجود فى دنيا الناس فى زماننا.. رأيته وهو يحاور سياسيين من الدول الكبرى، مصححاً فهمهم الخاطئ عن الأحداث التى وقعت فى مصر فيما يعرف بـ(الربيع العربى) وكأنه سياسى من الطراز الأول، مع تأكيده مراراً فى حديثه أنه ليس سياسياً، وإنما هو مسئول دينى يعيش بين الناس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بالأسماء تعرف على أوئل الشهادة الإبتدائية والإعدادية الأزهرية بالغربية

نموذج محاكاة الحياة النيابية والتشريعية فاعلية تثقيفية لطلاب أمانة وجه بحري بجامعة الأزهر

الغربية الأزهرية تشارك في فعاليات معرض الكتاب بفريق إنشاد ديني متميز